البقاعي رحمه الله
إذا انتقلنا إلى نموذج آخر، فهناك نموذج في التفسير فريد وهو الحافظ برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي رحمه الله, وهو رجل قدم نموذجاً فريداً في فهم القرآن وفي تفسيره، ويتميز تفسيره - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - بالتناسب -هذا موضوعه- وبشيء آخر وهو النقل عن أهل الكتاب, والمقارنة بينها وبين ما في القرآن والسنة، وهذا أخذه عليه كثير من العلماء, فقالوا: إنه أخطأ في النقل الطويل عن أهل الكتاب؛ لكن حقيقة نحن الآن نُعجب بهذا؛ لأسباب:أولاً: -وهذا أمر بعيد عن موضوعنا لكنه مهم جداً- نقله عنهم لكي تطابق أنت، وتستطيع أن تطابق الفصول التي نقلها -وهو متوفى سنة 885ه- بما هو موجود الآن في الأناجيل؛ لأن تراجم الأناجيل متأخرة؛ ففي إمكانك أن تطابق من مصدر موثوق إن شاء الله، وهذه تهم الدارسين في موضوع الأديان والتحريف الذي وقع في الأناجيل وفي التوراة وغيرها, فأحياناً أفرح حين ينقل نقلاً أطول حتى أقارنه بما في طبعات الكتاب أو العهد الجديد والعهد القديم الطبعة الكاثوليكية أو البروتستانتية أو السامرية أو غير ذلك, هذا جانب.الجانب الآخر: أنه حين يقارن يأتيك بمنهج استدلالي عقلي في غاية البراعة وفي غاية اللطف.فهو عند آية الفرقان -التي تعرضنا لشيء من تفسيرها في اللقاء الماضي- قول الله تبارك وتعالى: (( وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ))[الفرقان:38], يقول الحافظ البقاعي رحمه الله: هذا أمر عظيم مذكور وهو بين كل أمتين, وناهيك بما يقول فيه العلي الكبير إنه كثير! أي: ليس قليلاً, فهو عدد هائل كبير جداً. ثم ذكر حديثاً هنا عجيباً جداً واستنبط منه استنباطاً عجيباً، قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك, حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان قال: -هنا موضع الشاهد- أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا, ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل).أول ما استنبط أن قوله: (( وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ))[الفرقان:38], أن الأمم المعروفة في القرآن معدودة ومحصورة, بينما هناك سبعون أمة! فلو قلنا: قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وشعيب وكذا يبقى الأكثر! يمكن ثلاثة أرباع تبقى غير مذكورة؛ لكنها موجودة في التاريخ.فمعنى (كثيراً) أي: من هذه الأمم، هذا الاستنباط الأول.ثم قال: وفي بعض ألفاظهم -يعني: بعض ألفاظ الروايات؛ لأن الحديث رواه الإمام أحمد و الترمذي و ابن ماجه - (وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء), كان الصحابة رضي الله عنهم يلتفتون إلى الشمس هل بقي شيء منها؟! معنى ذلك أن شيئاً ضئيلاً جداً هذا الذي بقي ليذهب ذلك اليوم وتغيب شمسه.يقول: وهذا يدل على أن الذي كان قد بقي من النهار نحو العشر من العشر -عشر العشر فقط كان باقياً من نهار تلك اللحظة على تقدير الحافظ البقاعي- ثم يقول: وهذا يقتضي إذا اعتبرنا ما مضى لهذه الأمة من الأزمان أن يكون الماضي من الدنيا -يعني: بالنسبة بالتقدير- من خلق آدم عليه السلام في يوم الجمعة الذي يلي الستة الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض أكثر من مائة ألف سنة. والله أعلم.لاحظوا هذا الاستنباط البديع! يقول: إذا لم يبق إلا هذا القدر من الشمس والذي قدّره بعشر العشر فمعنى ذلك أن مائة ألف سنة مضت منذ خلق آدم عليه السلام.لا يهمنا الرقم ولا نقول: إن هذا قطع؛ لكن المقصود هو كيف أن المسلمين يمكنهم أن يستنبطوا, وأن يصلوا إلى الحقائق عن طريق التقدير بدون أي إشكالية؛ فلم يؤثر هذا في إيمانهم ولا يؤثر على أن أحداً رد عليه أو ناقشه؛ بل بالعكس سنرى -إن شاء الله- أشد من ذلك فيما ننقل عن مؤلفين آخرين.المهم أن هذه الحقائق قابلة للاستنباط والنظر؛ فمنها ما هو قريب إلى القطع، ومنها ما هو مجرد ظن، ومنها ما لا إشكال في رده أو قوله فهو مجرد اجتهاد بشري؛ لكن من غير أن نقع فيما وقعت فيه أوروبا حينما حل فيها ذلك الصدام العنيف والمعركة العنيفة، والتكفير الشنيع الشديد في تحديد هذه المدد للأنبياء ولغير الأنبياء، وامتد ذلك حوالي أربعة قرون ولا يزال -كما ذكرنا- في المعركة بين كلينتون ومنافسه في ولاية أركنسو في أمريكا .